والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة ، حتى لكأنها مجسمة ملموسة : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) .. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة ، والصلاة الخاشعة ، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة .. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ..
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيقة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة ، والإعزاز الذاتي ، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله ـ سبحانه ـ بالقوم ؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون. هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله. يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم ـ كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم ـ حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء ، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لو لا أنه فضل الله الكريم المنان؟!
* * *
وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل ؛ ومشهد المؤمنين الناعم الكريم ، يعقب بتلخيص مبدأ الجزاء العادل ، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة ؛ والذي يعلق الجزاء بالعمل ، على أساس العدل الدقيق :
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ، وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ..
وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك ، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله ، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة ، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة ، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.
(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) التي تؤويهم وتضمهم (نُزُلاً) ينزلون فيه ويثوون ، جزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) .. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. (وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.
ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة :