تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة ، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي «الأوامر اليومية» التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان «الأمر اليومي» مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ؛ ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه ..
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويثبته على طريقه ؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل ، وجزءا بعد جزء :
(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ..
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي ..
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا ، وتأثرت به يوما يوما ، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير ..
ويمضي في تثبيت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتطمينه على إمداده بالحجة البالغة كلما فتحوا له بابا من الجدل ، وكلما اقترحوا عليه اقتراحا ، أو اعترضوا عليه اعتراضا :
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ..
وإنهم ليجادلون بالباطل ، والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدمغه. والحق هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها ، وليس مجرد الانتصار في الجدل ، ولا الغلب في المحاجة. إنما هو الحق القوي بنفسه ، الواضح الذي لا يتلبس به الباطل.
والله سبحانه يعد رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالعون في كل جدل يقوم بينه وبين قومه. فهو على الحق ، والله يمده بالحق الذي يعفى على الباطل. فأنى يقف جدلهم لحجة الله البالغة؟ وأنى يقف باطلهم للحق الدامغ الذي يتنزل من عند الله؟
وتنتهي هذه الجولة بمشهدهم يحشرون على وجوههم يوم القيامة ، جزاء تأبيهم على الحق ، وانقلاب مقاييسهم ومنطقهم في جدلهم العقيم :
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ. أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ..
ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الإهانة والتحقير والانقلاب ، ما يقابل التعالي والاستكبار ، والإعراض عن الحق. وهو يضع هذا المشهد أمام الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تعزية له عما يلقاه منهم. ويضعه أمامهم تحذيرا لهم مما ينتظرهم. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم ، ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الإنذارات تهزهم هزا ، ولكنهم يتحاملون على أنفسهم ويظلون معاندين.
* * *
ثم يجول بهم جولة في مصارع المكذبين من السابقين :
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ، وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ؛ فَقُلْنَا : اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً. وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً. وَعاداً