ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله ، ولا يدخلون معهم في جدل حوله ، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو ؛ إنما يتركونهم في موادعة وسلام.
(وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ..
هكذا في أدب ، وفي دعاء بالخير ، وفي رغبة في الهداية .. مع عدم الرغبة في المشاركة :
(لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ..
ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين ، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!.
إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها. تفيض بالترفع عن اللغو. كما تفيض بالسماحة والود. وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه. فلا مشاركة للجهال ، ولا مخاصمة لهم ، ولا موجدة عليهم ، ولا ضيق بهم. إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.
* * *
هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن. ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن ؛ ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام. فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه. وما كان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليهدي من يحب. إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان ..
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ..
ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد كان يحوطه وينصره ، ويقف دونه في وجه قريش ، ويحميه حتى يبلغ دعوته ، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب. ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه ، وحمية وإباء ونخوة. فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فلم يكتب الله له هذا ، لما يعلمه سبحانه من أمره ..
قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي ـ رضي الله عنه ـ قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال : على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول : لا إله إلا الله. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى). وأنزل في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .. (أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري).
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «يا عماه. قل : لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال : لو لا أن تعيرني بها قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. لا أقولها إلا لأقر بها عينك». ونزل قول الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).