قائمة الکتاب

    إعدادات

    في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم

    في ظلال القرآن [ ج ٥ ]

    في ظلال القرآن [ ج ٥ ]

    117/699
    *

    (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ..

    والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها ، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها .. وهي أصنام أو أوثان ، أو ملائكة وشياطين ، أو شمس أو قمر .. فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه ، مخلوق بذاته ، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض ، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها ، كفيلا بإلزام الحجة ، ودحض الشرك ، وإفحام المشركين. وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد ، ويتضح فيه التدبير ، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد ، الذي تتضح وحدانيته بآثاره. ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه. فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة. إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير.

    (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) .. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟) ..

    والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ، ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر ، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر ، بهذا القدر ، الذي توجد به الحياة ، على النحو الذي وجدت به ، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة ، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق ، وبهذا التقدير المضبوط. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ ...) والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم ، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون :

    (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) ..

    حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة .. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر ـ وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر ـ : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس. سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان. فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول : كيف جاءت هذه الحياة ، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان. ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور.

    وعند ما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير ، يهجم عليهم بسؤال :

    (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) ..

    ولا مجال لمثل هذا الادعاء ؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان .. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا ، وهم يسوون