أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد ، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات.
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) .. وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية. فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه. والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله. تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر. وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ..
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .. وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير ..
* * *
وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ، إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة .. أسرة المسلمين .. ورئيسها وقائدها محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ؛ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ. فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ؛ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..
روى ابن إسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق. فلما سمع بهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ترغيبا للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب ودأبوا ، وأبطأ عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا إذنه ؛ وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويستأذنه في اللحوق بحاجته ، فيأذن له. فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله ، رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ... الآية» ثم قال تعالى : يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ، ويذهبون بغير إذن من النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) ... الآية» ..
وأيا ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها. هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها. ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا. وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) .. لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ، ولا يطيعون الله ورسوله.