وقطعوه في أيديهم قطعا. ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحا
لا يفكر في شيء ، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه
منها أية نسمة طليقة ، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة
مذهولين مشغولين بما هم فيه ، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير.
وحين يرسم لهم
هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) ..
ذرهم في هذه
الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه ، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم.
ويأخذ في
التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم ، إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت ، وإمدادهم
بالأموال والبنين في فترة الاختبار ، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم
بالنعمة والعطاء :
(أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟)
وإنما هي
الفتنة ، وإنما هو الابتلاء :
(بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ..
لا يشعرون بما
وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير!
* * *
وإلى جانب صورة
الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة :
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).
ومن هنا يبدو
أثر الإيمان في القلب ، من الحساسية والإرهاف والتحرج ، والتطلع إلى الكمال. وحساب
العواقب. مهما ينهض بالواجبات والتكاليف.
فهؤلاء
المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ؛ وهم يؤمنون بآياته ، ولا يشركون به. وهم
ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم. وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا .. ولكنهم بعد هذا
كله : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) لإحساسهم بالتقصير في جانب الله ، بعد أن بذلوا ما في
طوقهم ، وهو في نظرهم قليل.
عن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ أنها قالت : يا رسول الله. (الَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : «لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم
ويتصدق ، وهو يخاف الله عزوجل»
إن قلب المؤمن
يستشعر يد الله عليه. ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة .. ومن ثم يستصغر كل عباداته
، ويستقل كل طاعاته ، إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه
جلال الله وعظمته ؛ ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله .. ومن ثم يشعر
بالهيبة ، ويشعر بالوجل ، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه ، لم يوفه حقه عبادة
وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا.
__________________