وعندئذ وقعت الاستجابة ، بعد أن استوفى القوم أجلهم ؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب :
(قالَ : عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ..
ولكن حيث لا ينفع الندم ، ولا يجدي المتاب :
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) ..
والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة ، لا خير فيها ، ولا قيمة لها ، ولا رابط بينها .. وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها ، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا ، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى .. لم يبق فيهم ما يستحق التكريم ؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل ، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق.
ويزيدهم على هذه المهانة ، الطرد من رحمة الله ، والبعد عن اهتمام الناس :
(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
بعدا في الحياة وفي الذكرى. في عالم الواقع وفي عالم الضمير ..
* * *
ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ..
هكذا في إجمال ، يلخص تاريخ الدعوة ، ويقرر سنة الله الجارية ، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة ، وموسى وعيسى في أواخرها .. كل قرن يستوفي أجله ويمضي : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ). وكلهم يكذبون : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ). وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً). وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) تتناقلها القرون.
ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).
* * *
ثم يجمل قصة موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود :
(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ، إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ. فَقالُوا : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ).
ويبرز في هذا الاستعراض الاعتراض ذاته على بشرية الرسل : (فَقالُوا : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا). ويريد عليه تلك الملابسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في مصر : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) مسخرون خاضعون. وهي ادعى ـ في اعتبار فرعون وملئه ـ إلى الاستهانة بموسى وهارون!
فأما آيات الله التي معهما ، وسلطانه الذي بأيديهما ، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة ،