نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله. ويكرر هذا القول والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش ، وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مشغول بهذا الأمر. حتى كره ، رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلحاحه فعبس وأعرض عنه .. فأنزل الله في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول عتابا شديدا :
(عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى! أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟ كَلَّا! إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ...).
وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة. وصحح تصرف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي دفعته إليه ، رغبته في هداية صناديد قريش ، طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون. فبين الله له : أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد. وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة ، وأحكم الله آياته. واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين.
ولقد كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم. ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له : «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين.
كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن سعد ـ هو ابن أبي وقاص ـ قال : كنا مع النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ستة نفر. فقال المشركون للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان نسيت اسميهما. فوقع في نفس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ؛ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة ، وموازينها الدقيقة. ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة. ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء ، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم ـ كما كان يتمنى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والله أعلم بمصدر القوة الحقيقة ، وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا ولا عرفا جاريا!
ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقد زوجها من زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ وكان قد تبناه قبل النبوة ، فكان يقال له : زيد بن محمد. فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) وقال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) .. وكان زيد ـ رضي الله عنه ـ أحب الناس إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ فلم تستقم بينهما الحياة .. وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه. فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة ، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه. فأخبر رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد ـ لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة ـ ولكن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أخفى في نفسه ما أخبره به الله. وكان كلما