ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها. قضية العقيدة :
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) ..
فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم ، هكذا جزافا :
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ..
وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها. فهو يبدأ بكلمة (كَبُرَتْ) لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما. ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزا لضميرها في الجملة : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) زيادة في توجيه الانتباه إليها. ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجا كأنما تنطلق منها جزافا وتندفع منها اندفاعا (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ). وتشارك لفظة (أَفْواهِهِمْ) بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها ، فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد : «أفوا ...» ثم تتوالى الهاءان فيمتلىء الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة : (أَفْواهِهِمْ). وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل. ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) : ويختار للنفي كلمة : (إِنْ) لا كلمة «ما» لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح ، وفي لفظ «ما» شيء من الليونة بالمد .. وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار ، ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة ..
* * *
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه مود بهم إلى الهلاك .. فيما يشبه الإنكار يقول للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ. أَسَفاً)!
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف. فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع ، وأموال وأولاد .. جعلناه اختبارا وامتحانا لأهلها ، ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا ، ويستحق نعمتها ، كما يستحق نعيم الآخرة :
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
والله يعلم. ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلا ، وما يتحقق منهم في الحياة عملا. ويسكت عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح.
ونهاية هذه الزينة محتومة. فستعود الأرض مجردة منها ، وسيهلك كل ما عليها ، فتصبح قبل يوم القيامة سطحا أجرد خشنا جدبا :
(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) ..
وفي التعبير صرامة ، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك. وكلمة (جُرُزاً) تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي. كما أن كلمة صَعِيداً) ترسم مشهد الاستواء والصلادة!
* * *
ثم تجيء قصة أصحاب الكهف ، فتعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة. كيف تطمئن به ، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها ، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس. وكيف يرعى الله هذه