(قالَ : لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَصائِرَ. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) هالكا مدمرا ، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر ، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها.
عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية ، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم ، (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
وعندئذ تحق على الطاغية كلمة الله ، وتجري سنته بإهلاك الظالمين وتوريث المستضعفين الصابرين : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ : اسْكُنُوا الْأَرْضَ. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) ..
وهكذا كانت عاقبة التكذيب بالآيات. وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون ، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم ـ وقد عرفنا كيف كان مصيرهم في أول السورة ـ أما هنا فهو يكلهم هم وأعداءهم إلى جزاء الآخرة ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً).
* * *
ذلك مثل من الخوارق ، وكيف استقبلها المكذبون ، وكيف جرت سنة الله مع المكذبين. فأما هذا القرآن فقد جاء بالحق ليكون آية دائمة ، ونزل مفرقا ليقرأ على مهل في الزمن الطويل :
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) ...
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاما ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل. ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى. والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل. جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد ، لا فقها نظريا ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني!
وتلك حكمة نزوله متفرقا ، لا كتابا كاملا منذ اللحظة الأولى.
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى. تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة. ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب ؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية. تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم. وفي بيوتهم ومعاشهم. فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما ما رسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
ولقد أنزل الله هذا القرآن قائما على الحق : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) .. فالحق مادته والحق غايته. ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه .. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبسا بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه. فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته. والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به.