الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به .. (قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه.
* * *
ولقد كانت الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن بعد ما جاءهم ، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى ، أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشرا ؛ ولا يكون ملكا :
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا : أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً؟)
وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله ، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولا من عند الله. كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة الملائكة ، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة.
(قُلْ : لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً).
فلو قدر الله أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية ، لأنها الصورة التي تنفق مع نواميس الخلق وطبيعة الأرض ، كما قال في آية أخرى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) والله قادر على كل شيء ، ولكنه خلق نواميس وبرأ مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره ، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا تتبدل ولا تتحول ، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين ـ غير أن القوم لا يدركون!
وما دامت هذه سنة الله في خلقه ، فهو يأمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينهي معهم الجدل ، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم ، ويدع له التصرف في أمرهم ، وهو الخبير البصير بالعباد جميعا :
(قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ..
وهو قول يحمل رائحة التهديد. أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف :
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ، وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ ، فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) ..
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سننا ، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها ، ويتعرضون لعواقبها. ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال ، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال. فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله ؛ وهذا هو المهتدي حقا ، لأنه اتبع هدى الله. والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة : (عَلى وُجُوهِهِمْ) يتكفأون (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام. جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى. و (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) في النهاية ، لا تبرد ولا تفتر (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً).
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف. ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : (وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟)