ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم ، ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود ، فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة. فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه. فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا. والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه ، ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون.
ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم ، فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه.
* * *
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ..
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة ، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود. كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب. ذلك ما ركز في علم الله. والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن. فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء.
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب. ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ؛ أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم. ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق :
(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً).
إن معجزة الإسلام هي القرآن. وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة. ويخاطب الفكر والقلب ، ويلبي الفطرة القويمة. ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة. أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس ، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل.
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها. وقد ضرب السياق المثل بثمود ، الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة. فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة. وما كانت الآيات إلا إنذارا وتخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات.
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق. لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها. ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل ، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه.
أما الخوارق التي وقعت للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة. إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ : إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا. ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة (فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وابتلاء لإيمانهم. أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه.