والاستسلام. (وَقُلْ : رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
قال الحافظ أبو بكر البزار ـ بإسناده ـ عن بريدة عن أبيه : أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هل أديت حقها؟ قال : لا. ولا بزفرة واحدة.
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق ، فإنه يعقب على ذلك يرجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا ، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال :
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل ؛ وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطىء أو يقصر ، ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير.
وما دام القلب صالحا ، فإن باب المغفرة مفتوح. والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين.
* * *
ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين ؛ ويصل بهم المساكين وابن السبيل ، متوسعا في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير :
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ؛ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).
والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق. فليس هو تفضلا من أحد على أحد ؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله ، ووصله بعبادته وتوحيده. الحق الذي يؤديه المكلف فيبرىء ذمته ، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه ، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله.
وينهى القرآن عن التبذير. والتبذير ـ كما يفسره ابن مسعود وابن عباس ـ الإنفاق في غير حق. وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ، ولو أنفق مدّا في غير حق كان مبذرا.
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق. إنما هو موضع الإنفاق. ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين ، لأنهم ينفقون في الباطل ، وينفقون في الشر ، وينفقون في المعصية. فهم رفقاء الشياطين وصحابهم (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) لا يؤدي حق النعمة ، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة ، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق ، غير متجاوزين ولا مبذرين.
فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم ، وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم ، فليعدهم إلى ميسرة ، وليقل لهم قولا لينا ، فلا يضيق بهم صدره ، ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته ، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمل.
* * *
وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة :
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ..