ومن هذه الحلقة
من سيرة بني إسرائيل ، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ؛ بل
ضلوا فهلكوا .. ينتقل السياق إلى القرآن. القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم :
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وَأَنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ..
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ..
هكذا على وجه
الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان
أو مكان ؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في
كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي
أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا
غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة
للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق
واتساق.
ويهدي للتي هي
أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته
وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى
وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان
هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي
أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على
النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة
والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي
أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا ، وحكومات وشعوبا ، ودولا
وأجناسا ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي
والهوى ؛ ولا تميل مع المودة والشنآن ؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي
أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض
وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع
ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي
أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها
وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .. (وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً
، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً
أَلِيماً) فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان
والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم
يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم
.. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا
يهتدون بهدي القرآن ، فهم متروكون لهوى الإنسان. الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه
وما يضره ، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له :
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) ..
ذلك أنه لا
يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا
يدري. أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدى القرآن
الثابت الهادئ الهادي؟