هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون ، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة ، وصور الاحتضار ، ومصارع الغابرين ؛ تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس ، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون ، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة. كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ، وعظمة النعمة ، وعظمة العلم والتدبير .. كلها متداخلة .. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر ، لا تلبي ضروراتهم وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة ، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون ..
ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ، والتعقيب بها في مقاطع السورة ، وتضرب عليها الأمثال ، وتعرض لها النماذج ، وأظهرها نموذج إبراهيم (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات نرجو أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق.
ونبدأ الشوط الأول ، وموضوعه هو التوحيد ؛ وأدواته هي آيات الله في الخلق ، وأياديه في النعمة ، وعلمه الشامل في السر والعلانية ، والدنيا والآخرة. فلنأخذ في التفصيل :
* * *
(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ : أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ..
لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالا ، وزادوا استهزاء ، وزادوا استهتارا ؛ وحسبوا أن محمدا يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة ، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون ، وآياته في القرآن. هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب ، خيرا من خطابها بالعذاب! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور ، وحرية الإرادة والتفكير.
وجاء مطلع السورة حاسما جازما : (أَتى أَمْرُ اللهِ) .. يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة ؛ وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته ، لا يقدمها استعجال. ولا يؤخرها رجاء. فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى ، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر ، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر.
وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر ، وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع ؛ فأمر الله لا بد واقع ، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه ، ويتحقق به وجوده ، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة ، في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور.
فأما ما هم عليه من شرك بالله الواحد ، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى :