ويحكي السياق سوء أدبهم مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد جاءهم بالكتاب والقرآن المبين ، يوقظهم من الأمل الملهي ، ويذكّرهم بسنة الله ، فإذا هم يسخرون منه ويتوقحون :
«وقالوا : يا أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!» ..
وتبدو السخرية في ندائهم :
(يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ..
فهم ينكرون الوحي والرسالة ؛ ولكنهم يتهكمون على الرسول الكريم بهذا الذي يقولون.
ويبدو سوء الأدب في وصفهم للرسول الأمين :
(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ..
جزاء على دعوته لهم بالقرآن المبين.
وهم يتمحكون فيطلبون الملائكة مصدقين :
«لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!».
وطلب نزول الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها ، مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومع غيره من الرسل قبله : وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا الكائن الإنساني الذي كرمه الله ، فجعل النبوة في جنسه ، ممثلة في أفراده المختارين.
والرد على ذلك التهكم وتلك الوقاحة وهذا الجهل هو ذكر القاعدة التي تشهد بها مصارع السالفين : أن الملائكة لا تنزل على الرسول إلا لهلاك المكذبين من قومه حين ينتهي الأجل المعلوم ؛ وعندئذ فلا إمهال ولا تأجيل :
(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ..
فهل هو ما يريدون وما يتطلبون؟!
* * *
ثم يردهم السياق إلى الهدى والتدبر .. إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق ، ليحقوه وينفذوه. والحق عند التكذيب هو الهلاك. فهم يستحقونه فيحق عليهم. فهو حق تنزل به الملائكة لتنفذه بلا تأخير. وقد أراد الله لهم خيرا مما يريدون بأنفسهم ، فنزل لهم الذكر يتدبرونه ويهتدون به ، وهو خير لهم من تنزيل الملائكة بالحق الأخير! لو كانوا يفقهون :
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ..
فخير لهم أن يقبلوا عليه. فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل. ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية الله وحفظه ، إن كانوا يريدون الحق ، وإن كانوا يطلبون الملائكة للتثبت .. إن الله لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة ، لأنه أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ ، لا ملائكة الهلاك والتدمير.
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر ؛ فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب ـ إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة ـ ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونا محفوظا لا تتبدل فيه كلمة ،