وفق منهجه ـ فيعدّ لهم هذا كله عبادة. وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم ، لإصلاح حياتهم وواقعهم .. وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين! (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) .. ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد (١)!
ثم يخطو يوسف ـ عليهالسلام ـ خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية :
(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ..
إن هذه الأرباب ـ سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله ـ ليست من الربوبية في شيء ، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار ؛ الذي يخلق ويقهر كل العباد .. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء ، ويخلعون عليها صفات ، ويعطونها خصائص ؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان .. والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان ..
وهنا يضرب يوسف ـ عليهالسلام ـ ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين : لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة .. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون «العبادة»!
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ؛ سواء ادعى هذا الحق فرد ، أو طبقة ، أو حزب. أو هيئة ، أو أمة ، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا ، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة ، حتى بحكم هذا النص وحده!
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم ، وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته ـ سبحانه ـ فليس من الضروري أن يقول : ما علمت لكم من إله غيري ؛ أو يقول : أنا ربكم الأعلى ، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية ، أي التي تكون هي مصدر السلطات ، جهة أخرى غير الله سبحانه .. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه ، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية ، وما أنزل الله به من سلطان ..
ويوسف ـ عليهالسلام ـ يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول :
(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى «العبادة» التي يخص بها الله وحده ..
__________________
(١) يراجع ما سبق تقريره في هذا الجزء عن قيمة العبودية لله وحده في واقع الحياة البشرية. ص ١٩٣٨ ـ ١٩٤٣.