فغضب عليهم في نزوة عارضة ، فألقي بهم في السجن .. يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه ، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها ، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك :
«قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ؛ وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه. نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين» ..
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة ؛ فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة ، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين ، وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية ، ويصبحون فراعين!
ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما ، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى ، لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا ، جزاء على تجرده لعبادته وحده ، وتخلصه من عبادة الشركاء. هو وآباؤه من قبله .. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما ، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه :
(قالَ : لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي. إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ. ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ..
ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس ، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف .. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها ..
(قالَ : لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ..
بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني ، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى. وهذا ـ فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف ـ وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى ـ وقوله : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه ؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه.
(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ..
مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم ، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم. والفتيان على دين القوم ، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما ، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما ـ وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل.
وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر ـ كما قلنا من قبل ـ أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا ؛ منذ فجر البشرية الأول ؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة ـ بجملتها ـ متأخرا .. لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا ، ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في الرسالات السماوية الصحيحة ..
ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه :
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي : إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) ..