* إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية ؛ إنما كان يحكمها «الرعاة» الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم ، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى ـ عليهالسلام ـ من بعد بلقبه المعروف. «فرعون» .. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف ـ عليهالسلام ـ في مصر فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة ؛ وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس»! كراهية لهم ؛ إذ يقال : إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة : «الخنازير» أو «رعاة الخنازير»! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن.
* إن رسالة يوسف عليهالسلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام .. ديانة التوحيد الخالص .. وهو في السجن ؛ وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة. فيما حكاه القرآن الكريم من قوله :
«إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة شاملة ـ كما جاء به رسل الله جميعا ـ من ناحية أصول العقيدة. تحتوي ، الإيمان بالله ، والإيمان بالآخرة ، وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا ، ومعرفة الله سبحانه بصفاته .. الواحد ، القهار .. والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ؛ ومن ثم نفي الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان السلطان والحكم لله وحده ، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره. ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده. وتحديد معنى «العبادة» بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة ـ أي إفراده بالحكم ـ فهما مترادفان أو متلازمان : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .. وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها ..
وواضح أن يوسف ـ عليهالسلام ـ عند ما سيطر على مقاليد الأمور في مصر ، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل .. ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه ـ وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم ـ وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره ـ وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا ، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة.
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة ، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها.
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف :
«فلما رأينه أكبرنه ، وقطّعن أيديهن وقلن : حاش لله! ما هذا بشرا. إن هذا إلا ملك كريم» ..