«وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون. قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون. وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
* ونجده وهو يدبر ـ بتدبير الله له ـ كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة ، الضابطة الصابرة :
(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ : قالَ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ؛ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا ـ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ـ ما ذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ .. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ! فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ، قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ، إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ : مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) ..
* ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها ، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته ، وحن يوسف إلى أبويه وأهله ، ورق لإخوته والضر باد بهم ، فكشف لهم عن نفسه ، في عتاب رقيق ، وفي عفو كريم ، يجيء في أوانه ، وكل الملابسات توحي به ، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك :
«فلما دخلوا عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة. فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين. قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا : أإنك لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف ، وهذا أخي ، قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين. قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين» ..
* وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع .. موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه .. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه ، ويناجيه خالصا له ، وذلك كله مطروح وراءه :
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
إنها شخصية موحدة متكاملة ، بكل واقعيتها الممثلة لمقوّماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
* ويعقوب .. الوالد المحب الملهوف ، والنبي المطمئن الموصول ، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف ؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق ، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها :
(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ :