وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة ؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها ، وفي مظاهرها وفروعها ، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها ..
وهذا الموقف ليس مقصورا على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك ، وما كان في الأرض من حولها .. إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه! .. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة .. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة ، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة! .. إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها ـ وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة ـ وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك ؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية ؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضا! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج ، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية ، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلىاللهعليهوسلم :
(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
ويعلم ـ من طبيعة الواقع ـ من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة ، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادا كبيرا .. والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذا الكتاب ، مأمورا من ربه أن ينذر به ويذكر ؛ وألا يكون في صدره حرج منه ، وهو يواجه الجاهلية ، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق ..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين ، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر ، والسطوح والأعماق!
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء ـ حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين ، المسلمين لله المخلصين له الدين ـ فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق ..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم ، وليقيم عالما آخر ، يقر فيه سلطان الله وحده ، ويبطل سلطان الطواغيت. عالما يعبد فيه الله وحده ـ بمعني «العبادة» الشامل (١) ـ ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالما يخرج الله فيه ـ من شاء ـ من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. عالما يولد فيه «الإنسان» الحر الكريم النظيف .. المتحرر من شهوته وهواه ، تحرره من العبودية لغير الله.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة : «أشهد أن لا إله إلا الله» التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري ـ كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم ـ وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول
__________________
(١) يراجع فصل «العبادة» في كتاب : «المصطلحات الأربعة في القرآن» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.