نشأة حياة جنينية ، ونشأة حياة نباتية. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ .. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة .. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية ؛ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان ؛ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان.
ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة «هذا القرآن» الدالة على مصدره. ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة ..
وصدق الله العظيم :
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ ...).
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي ، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن ، فهم يحكمون على ما لم يعلموه. والحكم يجب أن يسبقه العلم ، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن. والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد. لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب ، ولما يأتهم تأويله الواقعي بوقوعه :
(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ..
شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم ، الظالمين المشركين بربهم. فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين :
(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ..
وإذا كان أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ، ويكذبون بما لم يحصل لهم عنه علم ، فإن هناك منهم من يؤمن بهذا الكتاب ، فليسوا جميعهم من المكذبين :
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) ..
والمفسدون هم الذين لا يؤمنون. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده. وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله ، وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه. شر اتباع الهوى في النفس والغير ؛ وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة .. تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم .. ثم تفسد مصالحهم وأموالهم. في سبيل بقائها المصطنع الزائف. وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون.
ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بألا يتاثر بتكذيب المكذبين ، وأن ينفض يديه منهم ، ويعلنهم ببراءته من عملهم ، ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين :
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).
وهي لمسة لوجدانهم ، باعتزالهم وأعمالهم ، وتركهم لمصيرهم منفردين ، بعد بيان ذلك المصير المخيف. وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك ، في وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريدا لا يجد منك سندا. وكثيرا ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد!