كذلك هذا النص
الآخر عن شمول علم الله :
«يعلم ما يلج
في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم
الغفور» ..
ويقف الإنسان
أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ؛ فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء
، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها
الخيال!
ولو أن أهل
الأرض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير
إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين!
فكم من شيء في
هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء
في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟
كم من شيء يلج
في الأرض؟ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن
هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ،
ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض ،
وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟! وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟
وكم من بركان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور يتكشف؟ وكم من حشرة تخرج من
بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو
كثير؟؟
وكم مما ينزل
من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق؟ وكم من شعاع منير؟
وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد؟ وكم من
رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر؟ .. وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله؟
وكم مما يعرج
فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟
وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه؟
وكم من روح من
أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة؟ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله؟ وكم
من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟
ثم كم من قطرة
بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟! كم في
لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار
الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في
كل مكان وفي كل زمان .. وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات
تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر .. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) ..
وإن آية واحدة
من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر
الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر. ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من
طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ
هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد! كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في
طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها ؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب
الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه .. كما يبدو في قوله تعالى :
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ! أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟ نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ