«تطويره» في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته. كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد ، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة ، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة! .. إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع.
إن الدينونة لله وحده أنشأت المجتمع المسلم ؛ والمجتمع المسلم أنشأ «الفقه الإسلامي» .. ولا بد من هذا الترتيب .. لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها. ثم بعد ذلك ـ لا قبله ـ ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ ، وليس «جاهزا» معدا من قبل! ذلك أن كل حكم فقهي هو ـ بطبيعته ـ تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة ، ذات حجم معين ، وشكل معين ، وملابسات معينة. وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة ، داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه ، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ؛ ومن ثم «يفصل» لها حكم مباشر على «قدها» .. فأما تلك الأحكام «الجاهزة» في بطون الكتب ؛ فقد «فصلت» من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا. ولم تكن وقتها «جاهزة» باردة! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ؛ وعلينا اليوم أن «نفصل» مثلها للحالات الجديدة .. ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير الله في شرائعه ؛ وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها.
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر ، اللائق بجدية هذا الدين. وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ؛ ويمكن من التفقه في الدين حقا .. وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ؛ وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار «تجديد الفقه الإسلامي» أو «تطويره»! .. هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين!
* * *
بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك. وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وخلفاؤه من بعده بصفة عامة ، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ..
فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ..
فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية ، تواجه من يلون «دار الإسلام» ويجاورونها ، مرحلة فمرحلة. فلما أسلمت الجزيرة العربية ـ أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة ـ كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم. ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس ، فلم يتركوا وراءهم جيوبا ؛ ووحدت الرقعة الإسلامية ، ووصلت حدودها ، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء ، متماسكة الأطراف ؛ .. ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها ، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت ، أو على أساس القوميات! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون. وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام «أمة واحدة» في «دار الإسلام» المتصلة الحدود ـ وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان ـ ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها ، وإلى رايته الواحدة ؛ وإلا أن تتبع خطى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ