ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا ـ في ظلال القرآن ـ مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها. فحسبنا هنا ما وفق الله إليه فيها (١).
* * *
وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا ؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا ؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعا أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة ، فهم أهلها الأقربون. وهم بها ولها. وهم الذين آووا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبايعوه ؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله. وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة .. فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه .. وحين يخرج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في الحر أو البرد. في الشدة أو الرخاء. في اليسر أو العسر. ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها ، فإنه لا يحق لأهل المدينة ، أصحاب الدعوة ، ومن حولهم من الأعراب ، وهم قريبون من شخص رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا ، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين ، الذين لم يتخلفوا ، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف ، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع .. وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكرا مبدأ التخلف عن رسول الله :
(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ).
وفي التعبير تأنيب خفي. فما يؤنب أحد يصاحب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأوجع من أن يقال عنه : إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله ، وهو معه ، وهو صاحبه!
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل. فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة ؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة ؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله صلىاللهعليهوسلم!
__________________
(١) نرجو توفيق الله «في ظلال السيرة» للوقوف طويلا أمام هذه المواقف الموحية في السيرة.