وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقا بالأنظار أو مهملا لا ينظر إليه إنسان ـ مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق ؛ والرجاء في الله أوثق.
«ونهى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الناس عن كلامنا. أيها الثلاثة. من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ـ أو قال : تغيروا لنا ـ حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم. فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد. وآتي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ـ وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ـ فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام. فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى. هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال : فسكت. قال : فعدت فنشدته فسكت ، فعدت فنشدته. قال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار» ..
هكذا كان الضبط ، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة ـ على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة ـ .. نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كلامنا أيها الثلاثة. فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة ، ولا مخلوق يلقى كعبا بأنس ، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي. حتى ابن عمه وأحب الناس إليه ، وقد تسور عليه داره ، لا يرد عليهالسلام ، ولا يجيبه عن سؤال. فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه ، إنما قال : «الله ورسوله أعلم».
وكعب في لهفته ـ وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف ـ يتلمس حركة من بين شفتي الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها ، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة ، ولم يكتب له الذبول والجفاف!
وبينما هو طريد شريد ، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة ـ ولو على سبيل الصدقة ـ يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه .. ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله ، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار ، ويعد هذا بقية من البلاء ، ويصبر على الابتلاء.
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه. لتدعه فريدا طريدا من الأنس كله ، مخلفا بين الأرض والسماء. فيخجل أن يراجع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في امرأته ، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب.
هذه صفحة. والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى. بشرى القبول. بشرى العودة إلى الصف. بشرى التوبة من الذنب. بشرى البعث والعودة إلى الحياة .. «فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا. قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا ، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته. والله ما أملك غيرهما يومئذ ، فاستعرت ثوبين فلبستهما ، فانطلقت أؤم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ،