حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.
وروى ابن جرير ـ بإسناده ـ إلى عبد الله بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى تبوك ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده.
وقال ابن جرير في قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ـ أي من النفقة والظهر والزاد والماء ـ (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ـ أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم ـ «ثم تاب عليهم» يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ..
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت «العسرة» كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة ؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية ؛ من اليقين الجاد عند طائفة. إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة. إلى القعود والتخلف ـ بغير ريبة ـ عند طائفة. إلى النفاق الناعم عند طائفة. إلى النفاق الفاجر عند طائفة. إلى النفاق المتآمر عند طائفة .. مما يشي أولا بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ؛ ويشي ثانيا بمشقة الغزوة ـ في مواجهة الروم ومع العسرة ـ هذه المشقة الممحصة. الممتحنة الكاشفة ؛ والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز.
* * *
هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم. ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكا ولا نفاقا ، إنما قعدوا كسلا واسترواحا للظلال في المدينة. وهؤلاء جماعتان ؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل ، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، واعترفوا بذنوبهم ، وجماعة أخرى : (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا ، أي تركوا بلا حكم. وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم. وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق ..
وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئا في تفسير النص المصور لحالهم ؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزة التي رسمها التعبير لهم ولحالهم ، ندع أحدهم يتحدث عما كان .. هو كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك ـ وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ـ قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في غزوة تبوك ، قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله