وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك ، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين ، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك.
قال ابن كثير في التفسير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب. وكان قد تنصر في الجاهلية. وقرأ علم أهل الكتاب ؛ وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله عزوجل ، وكانت العاقبة للمتقين. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله! ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر!
وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يموت بعيدا طريدا ، فنالته هذه الدعوة .. وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويغلبه ، ويرده عما هو فيه ؛ وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ؛ فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى تبوك ؛ وجاءوا فسألوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ؛ وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية! فعصمه الله من الصلاة فيه ، فقال : «إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا ـ إن شاء الله ـ» فلما قفل ـ عليهالسلام ـ راجعا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم ـ مسجد قباء ـ الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة .. (وكذلك روى ـ بإسناده ـ عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة).
فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ألا يقوم فيه ، وأن يقوم في المسجد الأول ـ مسجد قباء ـ الذي أقيم على التقوى من أول يوم ، والذي يضم رجالا يحبون أن يتطهروا. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ..
هذا المسجد ـ مسجد الضرار ـ الذي اتخذ على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مكيدة للإسلام والمسلمين ، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين ، وإلا الكفر بالله ، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة ،