فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة ، وفي غزوات المسلمين ؛ تظاهرا بالإسلام ، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم ؛ ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة! وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارها ، لا مساعدة للغزاة المجاهدين ، ولا حبا في انتصار الإسلام والمسلمين.
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) ..
وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين ، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين!
وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من الله ـ سبحانه ـ عليهم ؛ ودعاء الله معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم :
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ..
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم ؛ وتدور عليهم فلا تدعهم. وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله ، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه (١).
(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة ، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم ، وتخفيه ظواهرهم .. والله سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون.
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان :
(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ. سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فهو الإيمان بالله واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق ، لا الخوف من الناس ، ولا الملق للغالبين ، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس!
وهذا الفريق المؤمن بالله واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من الله ؛ ويتطلب صلوات الرسول .. أي دعواته .. الدالة على رضاه صلىاللهعليهوسلم ، المقبولة عند الله ، وهو يدعو بها للمؤمنين بالله واليوم الآخر ، المنفقين ابتغاء القربى من الله ورضاه.
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند الله :
(أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) ..
ويبشرهم بحسن العاقبة وعدا من الله حقا :
(سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) ..
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم ؛ وذلك في مقابل تجسيم «دائرة السوء» على الفريق الآخر ، الذي يتخذ ما ينفق مغرما ، ويتربص بالمؤمنين الدوائر.
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
يقبل التوبة ، ويتقبل النفقة ، ويغفر ما كان من ذنب ، ويرحم من يبتغون الرحمة ..
* * *
وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله .. حاضره وباديه ..
__________________
(١) يراجع فصل : «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب : «التصوير الفني في القرآن». «دار الشروق».