بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ..
(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) .. وهم طراز آخر غير ذلك الطراز .. (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) .. فنهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا واجب الإيمان ؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) .. خيرات الدنيا والآخرة ، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية. وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ، ولهم رضوان الله الكريم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .. الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) .. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
فأما الأولون فهم ذوو الأعذار الحقيقية فلهم عذرهم إن استأذنوا في التخلف ، وأما الآخرون فقعدوا بلا عذر. قعدوا كاذبين على الله والرسول. وهؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم. أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعل لهم مصيرا غير هذا المصير.
* * *
وأخيرا يحدد التبعة. فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون. فالإسلام دين اليسر ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم ، لأنهم معذورون : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ).
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة تقعدهم ؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد ؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به .. ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان ، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله ، لا يغشون ولا يخدعون ، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه ـ دون القتال ـ من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام ، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين. ليس عليهم جناح ، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون ، فلا جناح على المحسنين ، إنما الجناح على المسيئين.
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب ، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة. فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب ، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعا ، لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد ، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تختلف الروايات في تعيين أسمائهم ، ولكنها تنفق على الواقعة الصحيحة.
روى العوفي عن ابن عباس : «وذلك أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا ، فقال لهم : «والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا : فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه.
وقال مجاهد : نزلت في بني مقرن من مزينة.