(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ..
لقد كان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لاين المنافقين كثيرا ، وأغضى عنهم كثيرا ، وصفح عنهم كثيرا .. فها هو ذا يبلغ الحلم غايته ، وتبلغ السماحة أجلها ، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة ، ويلحقهم بالكافرين في النص ، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهادا عنيفا غليظا لا رحمة فيه ولا هوادة.
إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة ؛ وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع .. وللحركة مقتضياتها ، وللمنهج مراحله. واللين في بعض الأحيان قد يؤذي ، والمطاولة قد تضر.
وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين. أتكون بالسيف كما روي عن علي ـ كرم الله وجهه ـ واختاره ابن جرير ـ رحمهالله ـ أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والذي وقع ـ كما سيجيء ـ أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يقتل المنافقين ..
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا. وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ..
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم ، ويشير إلى ما أرادوه مرارا من الشر للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وللمسلمين .. وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية :
قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي. وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصاري : ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك. وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية.
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ جالسا تحت ظل شجرة ، فقال : «إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه». فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله عزوجل : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ...) الآية».
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه : أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها. فقال عمير : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ؛ ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى. فأخبر بها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأنكرها وحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله الآيات. فقال الرجل قد قلته ، وقد عرض الله عليّ التوبة ، فأنا أتوب ، فقبل منه ذلك ..
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة : «وهموا بما لم ينالوا» وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة ، من قتل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ غيلة وهو عائد من تبوك. فنختار إحداها :