وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب :
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ..
إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص ، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات ؛ ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة!
فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات ، متمثلة في مواقف أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ من الإسلام وأهله ، على مدار التاريخ ، تبين لنا تماما ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة ؛ وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة ، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة.
إننا إذا استثنينا حالات فردية ـ أو حالات جماعات قليلة ـ من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين ؛ والاقتناع بصدق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصدق هذا الدين. ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين .. وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم .. فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة ، إلا تاريخا من العداء العنيد ، والكيد الناصب ، والحرب الدائبة ، التي لم تفتر على مدار التاريخ ..
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم ؛ وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!
وليست هذه الظلال مجالا لعرض هذا التاريخ الطويل. ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ ..
لقد استقبل اليهود رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه ، ودينا يعرفون أنه الحق ..
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود .. شككوا في رسالة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهم يعرفونه ؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل القبلة ، وما فعلوه في حادث الإفك ، وما فعلوه في كل مناسبة ، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم .. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم. وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير : (١)
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ـ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ـ فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ـ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ـ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) ... (البقرة : ٨٩ ـ ٩٠).
__________________
(١) تراجع مقدمات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في هذه الطبعة المنقحة من الظلال.