عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
هذا المقطع الثاني في سياق السورة ؛ يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب ؛ كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة.
وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ ؛ وتتحدث عن المشركين فيها ؛ وتحدد صفات ووقائع وأحداثا تنطبق عليهم انطباقا مباشرا. فإن النصوص في المقطع الثاني ـ الخاصة بأهل الكتاب ـ عامة في لفظها ومدلولها ؛ وهي تعني كل أهل الكتاب. سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك.
هذه الاحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب ـ وبخاصة النصارى منهم ـ فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود ؛ ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى.
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .. فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس .. أساس إعطاء الجزية .. وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد ؛ ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين. فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين ..
إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة. فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) .. ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية ، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس.
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ، ومراحله المتعددة ، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى.
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة ؛ قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر ، أية عقبات مادية من قوة الدولة ، ومن نظام الحكم ، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض! ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر ، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ـ كما هو الإعلان العام للإسلام ـ ومناهج الجاهلية تريد ـ دفاعا عن وجودها ـ أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض ، وأن تقضي عليها ..