وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع ؛ ومن تذكير الذين آمنوا بنصر الله للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذ أخرجه الذين كفروا ؛ دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر ؛ ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافا وثقالا .. ظاهر من هذا كله ما كان في الموقف من مشقة ومن تخلف ومن قعود ومن تهيب ومن تردد ، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد ..
ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة ـ وهو أطول مقاطعها ، وهو يستغرق أكثر من نصفها ـ في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم ، ووصف أحوالهم النفسية والعملية ، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها ، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف ، وإيذاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين ، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء ، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله .. وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة ؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح ، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية. ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته :
«لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا تبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ...».
... (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ، وَقِيلَ : اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا : قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ ، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) ...
... (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ، وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللهُ ، سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ، إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) ...
... (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
«يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ، ذلك الخزي العظيم».
(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ : اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ : إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ : أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).
(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ، نَسُوا