وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبدا» .. فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال : «وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع ، لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، إن أصاب محمد النفير ذللنا» .. وصحت فراسة أبي سفيان ، وأصاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ النفير ؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم :
(وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ..
لا يفوته منهم شيء ، ولا يعجزه من قوتهم شيء ، وهو محيط بهم وبما يعملون.
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار :
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، وَقالَ : لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ، وَقالَ : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ..
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلا ما رواه مالك في الموطأ : حدثنا أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال : «أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة» ..
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، وهو ضعيف الحديث ، والخبر مرسل.
فأما سائر الآثار فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج. وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق. وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير. وعن الحسن وعن محمد بن كعب. وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) .. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين. وأقبل جبير إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار؟ قال : «إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب» وذلك حين رأى الملائكة.
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان. عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر ـ يعني من الحرب ـ فكاد ذلك أن يثنيهم. فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، فقال :