من الاعتقاد القلبي ـ والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا
نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع ؛ فلا نغفل طاقة النفس
البشرية وذبذباتها عند المواجهة ؛ ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة
حين نراها تهتز في مواجهة الخطر ـ على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة ـ فحسب هذه
النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق ، وتواجه الخطر فعلا ، وتنتصر على الهزة
الأولى! .. لقد كان هؤلاء هم أهل بدر ، الذين قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة ،
فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » .. وهذا يكفي ..
ولقد بقيت
العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها :
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ..
هذا ما أرادته
العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك. أما ما أراده الله لهم ، وبهم ، فكان أمرا آخر :
(وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ
الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ..
لقد أراد الله ـ
وله الفضل والمنة ـ أن تكون ملحمة لا غنيمة ؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ،
ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين ، فيقتل
منهم من يقتل ، ويؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية
الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ،
وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت. وأراد أن يكون هذا
التمكين عن استحقاق لا عن جزاف ـ تعالى الله عن الجزاف ـ وبالجهد والجهاد ،
وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
نعم. أراد الله
للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ؛ وأن تصبح دولة ؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان .. وأراد
لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها!
وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة ، وليس بالمال والخيل والزاد ... إنما
هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله
عن تجربة واقعية ، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من
هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان
وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ؛
ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد .. وما كانت
هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة
الطغيان.
وينظر الناظر
اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها
يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيرا لها وما قدره الله لها من الخير ..
ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن
يختاروا لأنفسهم خيرا مما يختاره الله لهم ؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما
قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا
يخطر لهم ببال ، ولا بخيال!
فأين ما أرادته
العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات
الشوكة ـ
__________________