هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة. ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل.
* * *
وبعد ، فإن هناك بقية في بيان طبيعة «الجهاد في الإسلام» و «طبيعة هذا الدين» يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان ، بعنوان «الجهاد في سبيل الله» .. وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة ؛ لا غنى عنها لقارىء يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية :
«لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة «الجهاد» «بالحرب المقدسة» (Holywar) إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم. وقد فسروها تفسيرا منكرا. وتفننوا فيها ، وألبسوها ثوبا فضفاضا من المعاني المموهة الملفقة. وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء. وقد كان من لباقتهم ، وسحر بيانهم ، وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة ، أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة .. الجهاد .. تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة ، مصلتة سيوفها ، متقدة صدورها بنار التعصب والغضب ، متطايرا من عيونها شرار الفتك والنهب ، عالية أصواتها بهتاف : «الله أكبر» ، زاحفة إلى الأمام ، ما إن رأت كافرا حتى أمسكت بخناقه ، وجعلته بين أمرين : إما أن يقول كلمة : «لا إله إلا الله» فينجو بنفسه ، وإما أن يضرب عنقه ، فتشخب أو داجه دما!
«ولقد رسم الدهان هذه «الصورة» بلباقة فائقة ، وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع ؛ وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر ، وكتبوا تحتها :
«هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء ، وجشع إلى الفتك بالأبرياء»! «والعجب كل العجب ، أن الذين عملوا على هذه الصورة ؛ وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار ، هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية ، وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة (UnholyWar) التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها ، وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها ، ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين ، ويفتشون عن المناجم والمعادن ، وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم. يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه. وبين أيديهم الدبابات المدججة ، وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء ، ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها ، وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة ، يريدون بذلك أن يهيئوا وقودا لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهابا واضطرابا. فلم تكن حروبهم في «سبيل الله» ، وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة ، وأهوائهم الذميمة ...
«هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال ، الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة. أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم «المتحضر المتمدن!». وأي بلاد الله ، يا ترى ، قد سلمت من عدوانهم ، وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية؟ وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وإفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة؟ .. لكن هؤلاء الدهاة