ونعتبره «دفاعا عن الإنسان» ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره .. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ؛ كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ؛ والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان!
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة «الدفاع» نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في «الأرض» بالجهاد ؛ ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ؛ وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان ..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ؛ ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على «الوطن الإسلامي!» ـ وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب ـ فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ؛ وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي!
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية ـ من أنظمة الدولة السياسية ؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير «الإنسان» .. نوع الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! .. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) .. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ؛ وهو طليق من هذه الأغلال!
إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي ـ وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام ـ آمنا أم مهددا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام ـ بأمر من الله ـ لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها .. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : «فاستقر أمر الكفار معه ـ بعد نزول براءة ـ على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام .. فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه .. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن (وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة) وخائف محارب» .. وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه. لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!