العالمية ؛ والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية ؛ والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوما واحدا لو لا هذه الكفالة العالمية!
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية. والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق ـ على قلة العدد وضعف العدة ـ ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية .. والله غالب على أمره.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) ..
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته .. هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله .. إنهم لا يتصورون أبدا أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون. ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين .. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين! .. إنهم يتولى بعضهم بعضا ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى! .. إنها سنة الله مع المكذبين .. يرخى لهم العنان ، ويملى لهم في العصيان والطغيان ، استدراجا لهم في طريق الهلكة ، وإمعانا في الكيد لهم والتدبير. ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين! ولكنهم غافلون! والعاقبة للمتقين. الذين يهدون بالحق وبه يعدلون ..
* * *
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوما من المكذبين بآيات الله في مكة ـ والنص القرآني دائما أبعد مدى من المناسبة الخاصة ـ وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة ـ التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي ـ بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين .. ثم كان يدعوهم ـ بعد هذا التهديد ـ إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم. فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين .. كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول ، وهم غافلون :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ؟ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟).
إن القرآن يهزهم من غفوتهم ، ويوقظهم من غفلتهم ، ويستنقذ ـ من تحت الركام ـ فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم .. إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها ، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة .. إنه لا يوجه إليهم جدلا ذهنيا باردا ؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
لقد كانوا يقولون عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير : إن محمدا به جنة. وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين!
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر .. وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام ـ أبي جهل ـ في الاستماع لهذا القرآن خلسة ، ليالي ثلاثا ، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة (١) .. وكذلك قصة عتبة بن
__________________
(١) يراجع الجزء السادس من الظلال ص ٨٢١ ـ ٨٢٢