ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع ـ إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه ـ بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي ؛ وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه :
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره ؛ فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب. والذي سيظل نافذا في عمومه ، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب. وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا ، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة ، الناكثة العاصية ، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ؛ ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف ..
ولقد يبدو أحيانا أن اللعنة قد توقفت ، وأن يهود قد عزت واستطالت! وإن هي إلا هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ .. ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية ، وما بعدها إلى يوم القيامة.
لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة ـ كما أخبر الله نبيه في قرآنه ـ معقبا على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة :
(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب ـ كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر ـ وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل ، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوبا عندهم ، في التوراة والإنجيل .. فليس عذابه ـ سبحانه ـ عن نقمة ولا إحنة. إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه ، ووراءه المغفرة والرحمة ..
* * *
ثم تمضي خطوات القصة مع خطوات التاريخ ، من بعد موسى وخلفائه ، مع الأجيال التالية في بني إسرائيل إلى الجيل الذي كان يواجه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والجماعة المسلمة في المدينة :
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً .. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ .. وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنا. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ، وَدَرَسُوا ما فِيهِ ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ! وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ..
وهذه بقية الآيات المدنية الواردة في هذا السياق تكملة لقصة بني إسرائيل من بعد موسى .. ذلك حين تفرق اليهود في الأرض ؛ جماعات مختلفة المذاهب والتصورات ، مختلفة المشارب والمسالك. فكان منهم الصالحون وكان منهم من هم دون الصلاح. وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات. تارة بالنعماء وتارة بالبأساء ، لعلهم يرجعون إلى ربهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويستقيمون على طريقهم :
(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ..
والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد ، وتذكير دائم لهم ، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار ..