يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل ، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في المدينة .. والآيات من هنا إلى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) آيات مدنية. نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها ؛ وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع ، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى ..
يأمر الله سبحانه رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم. وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال ؛ ويذكرهم بعصيانهم القديم ، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا ؛ وما جره عليهم جميعا من كتابة الذل عليهم والغضب أبدا .. اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي ، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر ؛ فهي معروفة للمخاطبين! فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية .. وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدا للعبادة ؛ ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش ، فجعل لهم السبت .. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع ؛ وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع .. وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلا ؛ ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية ، لتعتاد الصمود والثبات. فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ؛ ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض .. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء .. فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى! ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض .. إنما يختلف شكل الابتلاء ، ولا تتغير فحواه!
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل ـ في هذه المرة ـ للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم .. لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل ، قريبة المأخذ ، سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت ، وجاءتهم أيام الحل. لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة ، كما كانوا يجدونها يوم الحرم! .. وهذا ما أمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يذكرهم به ؛ ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا :
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).
فأما كيف وقع لهم هذا ، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة ، وتداورهم هذه المداورة .. فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عند ما يشاء الله .. والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم «قوانين الطبيعة»! والأمر في التصور الإسلامي ـ وفي الواقع ـ ليس على هذا النحو .. إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون ، وأودعه القوانين التي يسير عليها بمشيئته الطليقة. ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها .. لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة .. وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون .. وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين ؛ فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين .. فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفا لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر .. ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري