وقد أخذنا دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة ، فهي تمضي هكذا خبط عشواء!
عندئذ .. وفي ساعة الغفلة السادرة ، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان ، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية :
(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله ؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان ، فما عادوا يتحرجون من فعل ، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال!
هكذا تمضي سنة الله أبدا. وفق مشيئته في عباده. وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله ـ في اطار سنة الله ومشيئته ـ وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة ؛ ويحذرهم الفتنة .. فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء .. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة ، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف ، جزاء وفاقا على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ ، ومن لم يتحرج ، ومن لم يتق ، فهو الذي يظلم نفسه ، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد. ولن تظلم نفس شيئا.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية. فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب ، واتقوا بدل الاستهتار ؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض .. هكذا .. «بركات من السماء والأرض» مفتوحة بلا حساب. من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر ، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات ..
وأمام هذا النص ـ والنص الذي قبله ـ نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء. وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان ، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال. بل تنكره كل الإنكار! ..
إن العقيدة الإيمانية في الله ، وتقواه ، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة ، وعن خط تاريخ الإنسان.
إن الإيمان بالله ، وتقواه ، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟
ونحن ـ المؤمنين بالله ـ نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن ، فنصدقه ابتداء ، لا نسأل عن علله وأسبابه ؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله .. نحن نؤمن بالله ـ بالغيب ـ ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان ..
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر ـ كما يأمرنا إيماننا كذلك ـ فنجد علته وسببه!
إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة ؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية ؛ وصدق في الإدراك الإنساني ، وحيوية في البنية البشرية ، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود .. وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة ، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها ، وتتجه بها إلى وجهة واحدة ، وتطلقها تستمد من قوة الله ، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها ، وفي دفع الفساد والفتنة عنها ، وفي ترقية الحياة ونمائها .. وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.