وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس الله في الدنيا : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)!
* * *
فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. ويسكت السياق عما بينهما ، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار! (قالَ : ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ. قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس .. هنا في النار .. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟ .. فادخلوا إذن جميعا .. ادخلوا سابقين ولاحقين .. فكلكم أولياء .. وكلكم سواء!
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ؛ ويملي متبوعها لتابعها .. فلتنظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها ، وكيف يكون التنابز فيها :
(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)!
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه!
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) ..
وتلاحق آخرهم وأولهم ، واجتمع قاصيهم بدانيهم ، بدأ الخصام والجدال :
(قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ..
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء ، وهم متناكرون أعداء ؛ يتهم بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، ويطلب له من «ربنا» شر الجزاء .. من «ربنا» الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته ؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء. ولكن أية استجابة؟!
(قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).
لكم ولهم جميعا ما طلبتم من مضاعفة العذاب!
وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين ، حينما سمعوا جواب الدعاء ، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة .. كلنا سواء .. في هذا الجزاء :
(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ : فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)!
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم ، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل ـ وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم ـ :