من لم يأتهم من الله هدى ؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت ـ وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند ـ ولكن اليهود ـ الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله ـ كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت ؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله .. وهو طاغوت لما فيه من طغيان ـ بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية ـ وهي الحاكمية ـ وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان ، وهو طاغوت ؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون .. يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا :
(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) ..
قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ـ أو عن سعيد بن جبير ـ عن ابن عباس. قال : «كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس. فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير .. فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ... إلى قوله عزوجل : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) .. وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب ؛ حتى حفر النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأصحابه حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً. وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).
وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود .. إنه موقفهم دائما من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل .. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم. إنما يجدون العون والنصرة ـ دائما ـ عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق ؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق!
هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم .. وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا!
وهم يقولونها اليوم وغدا. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض ؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها ـ بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته ـ لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحيانا ـ لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث ـ قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف ـ