أؤمن بوجود الله إيمانا راسخا» (١).
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله ، كنشأة الكون وحركته ؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات. وصدق الله العظيم : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ...
٣ ـ ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان .. إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحوستين مليونا من الحيوانات المنوية .. كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرأة .. ولا يعلم أحد من الذي يسبق! فهو غيب ، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به ـ بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر! ـ ثم يصل السابق من بين ستين مليونا! ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين. ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة ، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث ؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة ، هو الذي يقرر مصير الجنين ـ ذكرا أو أنثى ـ وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر ـ بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) ... (الرعد : ٨ ـ ٩) (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ... (الشورى : ٤٩ ـ ٥٠) (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) ... (الزمر : ٦).
هذا هو «الغيب» الذي يقف أمامه «العلم» البشري ؛ ويواجهه في القرن العشرين .. بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن «الغيبية» تنافي «العلمية». وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية! ذلك بينما العلم البشري ذاته .. علم القرن العشرين .. يقول : إن كل ما يصل إليه من النتائج هو «الاحتمالات»! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك «غيبا» لا شك فيه!
على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة «الغيب» في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية.
إن القرآن الكريم ـ وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية ـ يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة. فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا ..
إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون ؛ يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها ..
__________________
(١) من مقال : «الخلايا الحية تؤدي رسالتها» في كتاب : «الله يتجلى في عصر العلم» .. ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين «العلميين» بلغتهم .. وليس هذا إقرارا منا بصحة كل ما نستشهد به وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها ..