كالبهيمة .. وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان ، التي تطلق السعار في النفس ، والتكالب على المتاع المحدود ، والعبودية لهذا المتاع الصغير ، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح ، ولا هدنة ، ولا أمل في عوض ، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة ، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة! .. وهذه الأنظمة والأوضاع ، التي تنشأ في الأرض منظورا فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان ؛ بلا عدل ولا رحمة ، ولا قسط ولا ميزان .. إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضا ، وتصارع الطبقات بعضها بعضا ، وتصارع الأجناس بعضها بعضا .. وينطلق الكل في الغابة انطلاقا لا يرتفع كثيرا على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم «الحضارة» .. في كل مكان ..
كان الله ـ سبحانه ـ يعلم هذا كله ؛ ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية ، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية .. أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة .. من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ..
ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة .. أولا لأنها حقيقة. والله يقص الحق. وثانيا لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان : تصورا واعتقادا ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة ونظاما.
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق .. الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتزلها وترجف ؛ فتتفتح نوافذها ، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها ، وتتحرك وتحيا ، وتتأهب للتلقي والاستجابة .. ذلك كله فضلا على أنها تمثل الحقيقة :
(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ. قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا : بَلى وَرَبِّنا. قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ..
هذا مصير الذين قالوا :؟ (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) .. وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين ؛ وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه ، لا يبرحون الموقف. وكأنما أخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب :
(قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) ..
وهو سؤال يخزي ويذيب! (قالُوا : بَلى وَرَبِّنا) ..
الآن. وهم موقوفون على ربهم. في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون!
وفي اختصار يناسب جلال الموقف ، ورهبة المشهد ، وهول المصير ، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير :
(قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ..
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم ، وأخلدت إلى الأرض ، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب ؛ الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة ؛ الذين عاشوا ذلك المستوي الهابط من الحياة! بذلك التصور الهابط الهزيل!