وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم ـ عن طريق الكهان والشيوخ ـ شرائع وقيما وتقاليد ، لم يأذن بها الله .. وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله!
وفي هذا المشهد ـ مشهد الحشر والمواجهة ـ يواجه المشركين ـ كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك ـ بسؤالهم عن الشركاء ـ كل أصناف الشركاء ـ أين هم؟ فإنه لا يبدو لهم أثر ؛ ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) ..
والمشهد شاخص ، والحشر واقع ، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم .. الأليم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) ..
وهنا يفعل الهول فعله .. هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا .. هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة ـ كما هو منعدم في الواقع والحقيقة ـ وجود الشركاء ؛ فيشعرون أنه لم يكن شرك ، ولم يكن شركاء .. لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع .. هنا «يفتنون» فيذهب الخبث ، ويسقط الركام ـ من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد ـ :
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ..
إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنة ، أو التي تبلورت فيها الفتنة ، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده ؛ وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا .. ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل .. فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة .. لقد فات الأوان .. فاليوم للجزاء لا للعمل .. واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان ..
لذلك يقرر الله سبحانه ، معجبا رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من أمر القوم ، أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء ، حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة. وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه ، فاعترفوا بالحق بعد ما غاب عنهم الافتراء :
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ..
فالكذب منهم كان على أنفسهم ؛ فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكا ، وافتروا على الله هذا الافتراء. وقد ضل عنهم ما كانوا يفترون وغاب ، في يوم الحشر والحساب!
هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته : أنهم ما كانوا مشركين. وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك. فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله ، وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله ـ كما تقول بعض التفاسير ـ فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثا .. إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب ؛ وانمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك. ثم تعجيب الله ـ سبحانه ـ من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا ؛ والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة! ..
والله أعلم بمراده على كل حال .. إنما هو احتمال ..
* * *
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة .. يصور حالهم