هذه الجولة ـ أو هذه الموجة ـ عودة إلى مواجهة المشركين المكذبين بالقرآن الكريم ، المكذبين بالبعث والآخرة .. ولكنها لا تواجههم بتصوير تعنتهم وعنادهم ؛ ولا تواجههم بمصارع الغابرين من المكذبين من أسلافهم ـ كما سبق في سياق السورة ـ إنما تواجههم بمصيرهم في يوم البعث الذي يكذبون به ؛ وبجزائهم في الآخرة التي ينكرونها .. تواجههم بهذا الجزاء وبذلك المصير في مشاهد حية شاخصة .. تواجههم به وهم محشورون جميعا ، مسؤولون سؤال التبكيت والتأنيب ، وسؤال التشهير والتعجيب : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) وهم في رعب وفزع ، وفي تضعضع وذهول يقسمون بالله ويعترفون له وحده بالربوبية : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)! .. وتواجههم به وهم موقوفون على النار ، محبوسون عليها ، وهم في رعب وفزع ، وفي ندم وحسرة يقولون : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)! .. وتواجههم به وهم موقوفون على ربهم ، وهم يتذاوبون من الخجل والندم ، ومن الروع والهول ؛ وهو ـ جل جلاله ـ يسألهم سبحانه : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) فيجيبون في استخذاء وتذاوب : «بلى وربنا». فلا يجديهم هذا الاعتراف شيئا : (قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) .. ويواجهون به وهم قد خسروا أنفسهم وخسروا كل شيء إذن ؛ وجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم ؛ وهم يجأرون بالحسرة على تفريطهم في الآخرة ، وأخذهم للصفقة الخاسرة!
مشهد وراء مشهد ، وكل مشهد يزلزل القلوب ، ويخلخل المفاصل ، ويهز الكيان ، ويفتح العين والقلب ـ عند من يشاء الله أن يفتح عينه وقلبه ـ على الحق الذي يواجههم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ والكتاب الذي يكذبون به ؛ بينما الذين أوتوا الكتاب من قبلهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!
* * *
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ..
لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ لهذا القرآن ؛ أو لصحة رسالة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله .. تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم ، عند ما كانوا يقفون من النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء (وكان هذا غالبا في المدينة) أو في مواجهة المشركين من العرب ؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب ، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية ، يعرفون هذا القرآن ، ويعرفون صدق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله.
وهذه الآية ـ كما رجحنا ـ مكية. وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو ـ إذن ـ يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه ، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم ؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون. شأنهم في هذا شأن المشركين ، الذين خسروا أنفسهم ، فلم يدخلوا في هذا الدين! والسياق قبل هذه الآية وبعدها كله عن المشركين. مما يرجح مكيتها كما قلنا من قبل في التعريف بالسورة ..
وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) .. على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقا ؛ أو على أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رسول من عند الله حقا ، يوحى إليه بهذا القرآن ..
وهذا جانب من مدلول النص فعلا ، ولكنا نلمح ـ باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذا