ها هو ذا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يواجه هؤلاء المشركين ، ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم ، وبين توحيده وشركهم ، وبين إسلامه وجاهليتهم. وليقرر لهم : أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم ، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه. وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر ؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق!
وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف :
(قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟) ..
أيّ شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟
وللتعميم المطلق ، حتى لا يبقى في الوجود كله «شيء» لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة : يكون السؤال : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟).
وكما يؤمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالسؤال ، فهو يؤمر كذلك بالجواب. ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم. ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع :
(قُلِ : اللهُ) ..
نعم! فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو أكبر شهادة .. هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين .. هو الذي لا شهادة بعد شهادته ، ولا قول بعد قوله. فإذا قال فقد انتهى القول ، وقد قضي الأمر.
فإذا أعلن هذه الحقيقة : حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة ، أعلن لهم أنه ـ سبحانه ـ هو الشهيد بينه وبينهم في القضية :
(شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ..
على تقدير : هو شهيد بيني وبينكم ، فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد : وهو أولى من الوصل على تقدير : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
فإذا تقرر المبدأ : مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية ، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه ، تضمنها هذا القرآن ، الذي أوحاه إليه لينذرهم به ؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلىاللهعليهوسلم ـ أو من بعد. فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم ؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية ؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة ، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمنا :
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ..
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس ، بلغة يفهمها ، ويحصل منها محتواه ، فقد قامت عليه الحجة به ، وبلغه الإنذار ، وحق عليه العذاب ، إن كذب بعد البلاغ .. (فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه ، فلا تقوم عليه الحجة به ؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذه الشهادة .. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته) ..
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله ـ سبحانه ـ متضمنة في هذا القرآن ، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم ، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه. وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها ؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة ؛