(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ..
إنهم يقترحون أن ينزل الله ـ سبحانه ـ ملكا على رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يصدقه في دعواه .. ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني. خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله. وهم ـ كما يقول الله عنهم ، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم ـ لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها ؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب ؛ ولكن لهم ـ مع ذلك ـ من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر ؛ كتبليغ الرسالة ؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين ؛ أو تثبيت المؤمنين ، أو قتال أعدائهم وقتلهم .. إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فلو شاء الله أن يرسل ملكا يصدق رسوله ، لتبدى للناس في صورة رجل ـ لا في صورته الملائكية ـ وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى! وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول لهم : أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم .. فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك ـ في صورة رجل لا يعرفونه ـ يقول لهم : أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله .. بينما هم يرونه رجلا كأي منهم؟! إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة. فلو أرسل الله ملكا لجعله رجلا وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها ؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين!
وهكذا يكشف الله ـ سبحانه ـ جهلهم بطبيعة خلائقة ، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته .. وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر ، وبلا معرفة ، وبلا دليل!
والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر : هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور ـ ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلام المسلم أن يدركها أولا ، وأن يتعامل معها أخيرا ـ ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة .. وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوما من مقومات الإيمان ، لا يتم الإيمان إلا به .. الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ..
وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة : ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة ؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيبا مجهولا يمكن وجوده ويمكن تصوره ، هو ـ بلا شك ـ نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني. وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء ؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية ؛ وتدعوه «تقدمية»! وسنتحدث ـ إن شاء الله ـ بشيء من التفصيل عن «الغيب» عند ما نواجه في هذه السورة قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) .. فنقصر الحديث هنا عن الملائكة ، من عالم الغيب.
لقد تضمن التصور الإسلامي عن عالم الغيب ، أن هناك خلقا من عباد الله اسمهم الملائكة. وأخبرنا القرآن الكريم عن قدر من صفاتهم ، يكفي لهذا التصور ، ويكفي للتعامل معهم في حدوده.
فهم خلق من خلق الله ، يدين لله بالعبودية ، وبالطاعة المطلقة ؛ وهم قريبون من الله ـ لا ندري كيف ولا ندري نوع القرب على وجه التحديد ـ : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. سُبْحانَهُ! بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) .. (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ..
وهم يحملون عرش الرحمن ، ويحفون به يوم القيامة كذلك ـ لا ندري كيف فليس لنا من علم إلا بقدر